بقلم : مراد الغضبان
ما زالت كهرمانة تسكب الماء بدل الزيت فوق الجرار الأربعين
زعماء السياسة المتسلطون على رقاب العراقيين , بين المشاركة والمحاصصة والطائفية والاغلبية السياسية ... وغيرها من المسميات اضاعت حقوق الناس .فهرب البعض بأموال العراق وبقي البعض الاخر يسلب ويسرق ولا من محاسب ولا رقيب.. لم يكتفوا بالعبث بواقع اهلهم وتعريض بلدهم لخطر محدق, لم يشبعهم اموال السحت من المشاريع والاستثمارات , لم يتوقفوا عند سرق حضارة بلد بكامله.
و لا يبدو ان الزعماء، وهم يقتسمون المناصب والمواقع والكراسي، وجدوا متسعا من الوقت لبحث أولويات الوطن و المواطن، ذالك المواطن الذي يعاني من تردي الخدمات وتراجعها، ويرزح تحت وطأة البطالة وتبعاتها، ويئن من شظف العيش وقسوته. او للبحث في كيفية حفظ كرامة العراق..
انهم حكاية من حكايات الف ليلة وليلة اساطير من تلك الاساطير بل كوابيس مزعجة وكئيبة.
فبعد ان ينتهون سراقنا من الكلام والنقاشات حولها يتشدقون ويتضاحكون وينتهي كل شئ على طاولاتهم ليذهب كل الى بيته وهكذا تجري معظم الامور لتبقى مغلوله بسلاسل من حديد لايقوي احدا منهم ان يخرج بقرار واذا وصل القرارالى مسامع الاخرين سوف يفسر كل من على مبادئه ليخرج ضعيفا لايقوى حتى على الصمود في وجه الرياح التي تعصف بهذا البلد فالصفقات السياسية التي تعقدها بعض الكتل لن تخرج عن دائرة المصالح الخاصة سيما تلك التي تعبر الحدود حتى تراها تلقي بضلالها على الاحداث لتصبح بعدها مؤشرات يرقى الى مستوى الادانه لانها تولد عادة احادية الابعاد لكونها تصدر من كتل اجنداتها مثيرة للجدل على كافة المديات وعلى كل الاصعدة .
فمؤتمر من هنا ولقاءات من هناك وبيان يخرج يمدح واخر يقدح كل ذلك لم يغير من الواقع شيئا والخاسر الوحيد هو الشعب .وفي وقت فقد هذا الشعب ثقته بجميع الكتل الحاكمة والجاثمة على المشهد السياسي.
وعندما ينتفظ الشعب اين تراهم يختبئون السراق ليس لهم سوى جرار كهرمانة حتى يعاودو الكره مرة اخرى.
ولان لاجديد تحت الشمس يعتلي اللصوص الجرار ليختبوا داخلها..
ففي حياتنا الكثير من الوجوه..وفي قلوبنا الكثير من الاحاسيس اتجاههم .
كهرمانة كانت رمزاً شامخاً في بلادي، تصب الزيت على هامات اللصوص، وهي تعتلي تلك الجرار البرونزية، ما فتيء الناس تطوف حول مقامها، ليلا ونهاراً وعلى مدار السنين، عارفين بفضلها، ممتنين لها،
كرهنا الطرق التي لا تؤدي اليها وكرهنا الاحلام التي لا تأتي بها فانت ايتها الجارية رمز النزاهة والحكمة، والإقتدار على كشف اللصوص وحبسهم والقصاص منهم !
انت كما وصفك نزار قباني...
انت اللغة التي يتغير عدد حروفها ,كل يوم,وتتعير جذورها...ومشتقاتها...وطريقة اعرابها...كل يوم..
لكن بعد صبكَّ الزيت المغلي على رؤؤس اللصوص هل نامت بغداد بعدها قريرة العين..
.نامي يا قرة العين ..
من ذ أصابك يا بغداد بالعيــن** *ألم تكونــي زمانـا قـــرة العيـن
أستودع الله قوما ما ذكرتهــم*** إلا تحّدر ماء العيـن من عينـي
لله در زمـان كــان يجمعنــــا ***أين الزمان الذي ولى ومن أين
هكذا تعلقت قلوبنا بكهرمانة، أنت ايتهى الجارية حلم صاغه القدر.. هبة السماء.. غيث الأماني والمطر.. اغنيه لفظتها الأنفاس ..
لحنا عاشق..أبتهالات دعائي ..رسول عشقي المنتظر ..من هاتفت الروح وملئت بأنفاسها كوؤس الصبر وأغتالت الصمت
من جوف الظلام فهي منقذتنا رسمتها أحلامنا أملاً نرجسياً يتسامى على هامات المفسدين والسارقين. فلسنا بحاجة الى الشرطة والجيش والسلاح لمقارعة السراق، وانما نحتاجك انت لكي تدفعي عنا شرورهم ! ونزواتهم..
يخونون اوطانهم بإسم الاسلام ..يروعون الآمنين باسم الاسلام ..يسفكون دماء الأبرياء بإسم الاسلام..إذا كان هؤلاء سيدخلون الجنة.. فمن سيدخل النار..التي ستكون وقودها الناس والحجارة.
كنا نظن أن كهرمانة قد أحكمت على زمام اللصوص، وهي تحمل بوتقة الزيت الحارق لتصبه على رؤوسهم، فلم تكن مورداً للشك يوماً ما ! والظن ساعة .
ولم يكن أحدا يعلم بأنها هي من كانت تسرق أحلامنا، وتخبيء سرقاتها في تلك الجرار، وتسقيها بذلك الماء الهادر من آنيتها.منذ أن كنت صغيراً، كنت أقول لأبي الذي ما فتيء يعيد لي قصة (كهرمانة والأربعين حرامي)؛ كنت أقول له : كهرمانة تصب الماء الدافيء لا الزيت الحار، أظن أنها كاذبة، خائنة. ولم اعم بانهم هم من سرقوا الزيت كما سرقوا رغيف الخبز!
لا تستغربي من أحرفي... ولا تحكمي عليها بحكم قد يكون قاسي.
هكذا مرت السنين وكبرنا، وأزددنا وعياً، فعلمنا أن كهرمانة بالفعل كانت خائنة، وعميلة للصوص، وتلك جرارها الأربعون فارغة، وما تصبه بها ماء دافيءوانها هي من اطلقت اللصوص ليكثروا وينتشروا في ازقة بغداد.
وبقيت صورة المرأة المنتصبة وهي تسكب زيتها او ذلك الماء البغدادي على الرؤوس لحظة تذكر أبدا بروح الحياة البغدادية ولصوصها السذج،وتشير إلى جزاء أنثوي لتحقيق العدل، وتحكي أن صباحات بغداد لحظات جوهرية تكشف عن لصوص المدينة وسراقها الاغبياء..المعتوهين .
يا كهرمانةهل شاهدتي مرة نشرات الاخبار وهي تصور مخيمات المهجرين وهم يجلسون امام خيامهم وسط الازبال والذباب والاهمال والذل الذي اصابهم من حتى سرقوا اموالا خصصت لهم بصفقة بينهم.
ستسقط جرة من هذه الجرار، كلما هرب مسؤول ما بملفات واموال
يقل الماء او الزيت الذي تسكبيه، كلما تحطم بيت هنا، او قتل طفل هناك، او هرب مثقف إلى هناك ما يخاف منه ان تُنزلي هذه يوما من مكانك، او تختفي فيختفي الدليل على ما يجري،
ويال فزعي ان تكوني شريكة معهم.
ما أقساك
حين افتح عينيّ
فلا أرى فوق الجرار سوى الماء الاسن المتدفق
وما أقساك
حين أغمض عينيّ
فلا يتبقى في ظُلمة العين سوى تلك الجرار التي عشعشت عليها الطحالب العفنة.وضجيج السيارات التي تلتف حولها.