بغداد/ سكاي برس
تفاقمت أزمة شح المياه في العراق خلال السنوات الماضية لعدة أسباب من بينها سوء إدارة استخدام المياه وتغير المناخ وتراجع الإمدادات من دول المنبع، تركيا وإيران وسوريا، وهي عوامل تتشابك معا وتبرز أهمية مشكلة أساسية لم تتم معالجتها حتى الآن.
وسلط تقرير جديد لمركز "تمكين السلام" العراقي، الضوء على السياق التاريخي لهذه المشكلة، وقال إن غياب الإرادة السياسية في العراق طيلة العقود الماضية منع حل المشكلة.
وقدم المركز عدة مقترحات، مشيرا إلى أن العراق يمتلك "النفوذ" لإدارة الأزمة بفعالية في سياق تغييرات إقليمية.
ويشير البحث الجديد للمركز إلى أن مأزق العراق يكمن في أنه بلد مصب، وجاف ويعتمد بشكل كبير على المياه السطحية التي تأتي من جيرانه، ومع ضعف استجابة الحكومات العراقية، تعمل دول الجوار على بناء السدود أو إعادة توجيه مسارات الأنهار المشتركة لتأمين احتياجاتها الخاصة، وبالتالي تقليل كمية المياه المتدفقة إلى العراق. وتتفاقم هذه المشكلة بسبب الاضطرابات في علاقات البلد بجيرانه، وفق البحث.
ويشير التقرير إلى "سد أتاتورك"، أحد أكبر سدود تركيا على طول نهري دجلة والفرات، الذي اكتمل بناؤه في عام 1991، وهو ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يتضمن خططا لبناء سلسلة من السدود ومحطات الطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات.
وتظهر صورتان لوكالة "ناسا" نهر الفرات قبل 20 أغسطس 1983 وبعد 24 أغسطس 2002 وفي الثانية، تظهر بوضوح بحيرة كبير ناتجة عن مياه السد، وهي تغطي حوالي 817 كيلومترا مربعا.
وفي تصريحات صحفية قال مدير المركز، عمر النداوي، إن النقطة الأهم في التقرير هو الإشارة لمسؤوليات الحكم في الاستجابة لأزمة المياه و"ضعف اهتمام السلطة السياسية"، مشيرا إلى أنه منذ عام 2003، أظهرت الحكومات المتتابعة "ضعفا واضحا" في التعامل مع ملف المياه، وقصر الملف على مسؤولين فنيين، وليس على أعلى المستويات في الحكومة لتأكيد حقوق العراق المشروعة.
ويشير النداوي إلى عدم وضوح الجهة المسؤولة عن الملف "هل هي وزارة المياه؟ أم وزارة الخارجية؟ أم لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان؟ أما وزارة الزراعة؟ هناك تبادل لإلقاء اللوم بين الجهات الحكومية المختلفة أدى إلى تأخير العراق في المطالبة بحقوقه".
وهذا الأمر أدى إلى "مماطلة" دول الجوار في الاستجابة لمطالب العراق، ورفضت حتى مجرد عقد اجتماعات في ظروف شحة مياه عصيبة كان يمر بها العراق، حيث تشير شهادات مسؤولين مياه عراقيين إلى أنه لم توجد مباحثات تقريبا مع الجانب الإيراني، ومماطلة من تركيا وتأخير للاجتماعات.
ويشير إلى "ضعف القيادة السياسة تجاه دول الجوار، ومعظمها أقامت علاقات ضعيفة أو تبعية وهذا أضعف موقفها من المياه".
ويوضح أنه حدث تغيير "نوعا ما" بعد أن بنت تركيا سد إليسو، الذي أثر "بشكل محسوس على موارد العراق المائية، لكن حتى الآن لايزال العراق يحاول عقد اجتماعات مع الأترك والإيرانيين، ويقابل بالتأخير ويرسل مسؤولين بمستوى أدنى.
وبالتزامن مع ذلك، تلقي هذه الدول باللوم على العراق في سوء إدارة المياه من ناحية الخزن الخاطئ أو اتباع أساليب زراعة قديمة.
ويشير نص التقرير إلى "إهمال" الحكومات العراقية بعد عام 2003 الملف وإحجامها عن مواجهة دول الجوار، مشيرا إلى أن الأحزاب التي ظهرت بعد 2033 إما تعتمد على دول الجوار للحصول على الدعم السياسي، أو تخشى قوتها.
ووصف التقرير دبلوماسية المياه في العراق على مدى السنوات العشرين الماضية بأنها "غير متسقة"، ما انعكس على الميزانيات المخصصة لوزارة الموارد المائية. ومنذ عام 2003، يُنظر إلى وزارة الموارد المائية على أنها كيان "هامشي".
وقبلت بغداد بشكل عام الوعود الشفوية من المسؤولين الأتراك بأن سدود أنقرة الجديدة لن تسبب ضررا للعراق. وتم اتخاذ إجراء واحد ملحوظ فقط في عام 2006، عندما أجرى العراق دراسة لتقييم تأثير سد إليسو، حيث بدأ العراق أخيرا في التعامل مع الأمر على محمل الجد. وعلى مدى السنوات العديدة المقبلة، وبسبب التأثير الحاد لتغير المناخ، كثف العراق جهوده الدبلوماسية.
وفي عام 2019، وقع مذكرة تفاهم مع تركيا لعقد قمة مائية ثلاثية الأطراف في بغداد. وفي الفترة التي سبقت القمة، سعى العراق إلى إنشاء جبهة موحدة مع سوريا، حيث التقى وزيرا البلدين في دمشق. وكان العراق يأمل في عقد القمة الثلاثية قبل نهاية عام 2022، لاستئناف المفاوضات التي توقفت في الثمانينيات، وحتى وقت كتابة هذا التقرير، لم يتم الاجتماع.
ويشير التقرير إلى "تجنب متعمد" لمواجهة إيران، مشيرا إلى أن مسؤولين في وزارة الموارد المائية قالوا إن السلطات العليا طلبت منهم "عدم التحدث إلى إيران بشأن ذلك".
وفي عام 2020، هددت وزارة الموارد المائية برفع دعوى قضائية ضد إيران بسبب تحويلها لروافد أنهر، لكن لم يؤيد أي سياسي أو مسؤول حكومي كبير هذا الأمر.
ولخص حاتم حامد، مدير المركز الوطني لإدارة الموارد المائية في العراق، مشاكل دبلوماسية المياه في البلاد بالقول: "مع تركيا ، هناك حوار ، لكن مع العديد من التأخيرات ... مع إيران، لا يوجد شيء".
ويشير النداوي إلى أن الوضع العام طرح المسائل المتعلقة بالمياه على أعلى المستويات الحكومية، مشيرا إلى أن أزمة تلوث مياه البصرة بسبب قلة الوارد المائية والملوحة، في عام 2018، كانت ضمن أسباب اندلاع احتجاجات تشرين.
ويصف الباحث النداوي الوضع المائي في العراق بأنه "مأساوي". فمستوى المياه في نهري دجلة والفرات تدنى بدرجة كبيرة، والملوحة دمرت مساحات واسعة من مزارع الجنوب، ومنطقة الأهوار تقريبا في طريقها للزوال.
وكان تقرير لصحفية نيويورك تايمز قد سلط الضوء على مشكلة طول نهر الفرات، وقالت إن الناس "يفككون منازلهم، وينقلون أماكن سكنهم بعيدا" بحثا عن المياه.
وتشير آخر التقديرات إلى أن مساحة الأهوار تبلغ اليوم حوالي 4 آلاف كيلومتر مربع، بتراجع عن 20 ألف كيلومتر مربع خلال تسعينييات القرن الماضي. ولا يزال يقطنها نحو بضعة آلاف فقط.
وفي السنوات الأخيرة، عانى العراق من نقص حاد في المياه بسبب قلة هطول الأمطار وانخفاض إمدادات المياه من نهري دجلة والفرات.
ويقول عزام علوش، وهو مهندس وخبير مياه عراقي، إن عدد سكان العراق وصل إلى 43 مليون وبحلول 2030 سيلغ عدد السكان حوالي 53 مليونا، ما سيزيد الطلب على المياه والغذا، ".
وقدر التقرير متوسط هطول الأمطار في جميع أنحاء البلاد بنحو 216 ملم في السنة. وللمقارنة، فإن متوسط هطول الأمطار في الولايات المتحدة هو حوالي 762 ملم في السنة. ويوفر نهرا دجلة والفرات الغالبية العظمى من المياه، بحوالي أكثر من 90 في المئة.
وتأتي معظم مياه الأنهار من تركيا بنسبة 71 في المئة، تليها إيران بنسية 7 في المئة، ثم سوريا بنسبة 4 في المئة.
ورغم أن تركيا تمتلك القدر الهائل من إمدادات المياه التي يحتاجها العراق، فإن مساهمات إيران في نهر دجلة، على الرغم من صغرها، تعتبر حيوية لسكان المحافظات الشرقية مثل ديالى، وبعض الأنهار العابرة للحدود، مثل نهر الكارون، التي تتدفق مباشرة من إيران إلى مجرى شط العرب المائي.
ويجعل مناخ العراق الجاف مياه نهري دجلة والفرات لا غنى عنها لسد احتياجات العراقة. وفي حين أن الزراعة المعتمدة على المطر منتشرة في المناطق الشمالية، فإن غالبية الأراضي الزراعية في العراق تعتمد بشكل كبير على الري، والذي يشكل 75 في المئة من استهلاك المياه السطحية في البلاد.
وانخفض الحجم الإجمالي للمياه الواردة من هذه الأنهار بشكل ملحوظ من 93.47 مليار متر مكعب في عام 2019 إلى 49.59 مليار متر مكعب في عام 2020، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى تصرفات دول المنبع.
ويقول التقرير إنه بسب ضعف الاستجابة، زاد الجفاف ودمرت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية وجفت العديد من البحيرات حتى اختفت تماما.
ويقول البحث إن مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي تضمن بناء سد أتاتورك، قلل من المياه المتفقدة للعراق إلى حوالي 40 مليار متر مكعب سنويا، ومن المتوقع أن تزداد هذه الخسارة بمقدار 11 مليار متر مكعب سنويا، ما سيكون له تأثير مدمر على الزراعة.
وعلى خطى تركيا، طورت إيران خططها الخاصة لبناء 109 سدود على أنهار مختلفة تشمل روافد مهمة تصب في نهري دجلة وشط العرب.
وبشكل عام، انخفضت كميات المياه التي يتلقاها العراق من إيران من المتوسطات التاريخية البالغة 15 مليار متر مكعب سنويا إلى كميات ضئيلة بحلول عام 2018.
ووفق تقرير سابق ، قامت تركيا، منذ عام 1974، ببناء 22 سدا ومحطة للطاقة الكهرومائية ومشاريع ري على نهري دجلة والفرات.
وفي أوائل عام 2000، بدأت إيران في بناء أكثر من 10 سدود على روافد نهر دجلة، ما أدى إلى تدمير كبير للزراعة في المحافظات العراقية مثل ديالى، التي كانت معروفة بزراعة الخوخ والمشمش والبرتقال والتمر.
ونتيجة لكل هذا انخفضت المياه المتدفقة إلى العراق بنسبة 50 في المئة تقريبا على نهر الفرات، وبنحو الثلث على نهر دجلة منذ بدء بناء السدود الرئيسية في سبعينيات القرن العشرين، وفقا لإحصاءات وزارة الموارد المائية العراقية.
ورغم نزاعات العراق مع سوريا، إلا أنهما يشتركان في أنهما دولتا مصب، وهناك في سوريا فجوة متزايدة بين الطلب والموارد المائية المتاحة. ونتيجة لذلك، فإن حصة العراق من نهر الفرات ستقل حتما.
ويشر التقرير إلى مشكلة تغير المناخ، التي تفاقمت هذا الصيف وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعانى منها العراق.
وأدى ارتفاع درجات الحرارة في العراق إلى انخفاض كبير في هطول الأمطار السنوي، والذي يبلغ حاليا 30 في المئة، ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى 65 في المئة بحلول عام 2050.
ويوضح علوش أن التغير المناخي تسبب في زيادة شح المياه وزياردة مستوى سطح البحر مهددا بإغراق البصرة خلال 20 عاما، وتسبب في زيادة ملوحة الخليج من 35 ألف جزء من المليون إلى 50 ألفا، كما أن الأراضي الزراعية التي تضررت أصبحت مصدرا للأتربة مع زيادة العواصف الرملية وسرعتها.
ويشير النداوي أن مشكلة سوء إدارة الموارد المائية تسبب في تفاقم الأزمة، مشيرا إلى أنه بالنظر إلى موازنات العراق في السنوات الماضية، ستجد أن وزارتي الموارد المائية والزراعة الأقل تمويلا، في حين تحصل وزارات ثانوية على حصص أكبر.
ويقول: "هناك اندثار للبنية التحتية، وهناك سوء للخزن، وسوء تصرف بالمياه، وسوء تطبيق لسلطة القانون في استخدام المياه"، وهي أمور تضاف إلى الجانب السياسي من الأزمة.
ويقدم تقرير المركز مقترحات عملية للأزمة، ويشير إلى أنه يمكن للعراق الاستفادة من نفوذه وإمكانياته، باعتباره منتجا للطاقة وشريكا تجاريا وحليفا أمنيا مهما، للوصول إلى ترتيبات في تقاسم المياه.
ويشير النداوي إلى أن المقترحات تعتمد بالأساس على وجود "إرادة سياسية"، ويرى أن الحكومة الحالية تتمتع بنفوذ دبلوماسي أكثر من الحكومات في الفترة من 2005 إلى 2014 التي تركته معزولا عن سياقه الإقليمي، أما "الآن هناك انفتاح دبلوماسي حيث شهد علاقات بغداد بدول الجوار تطورا وأصبح العراق جسرا للتواصل".
ويقول التقرير إن "حكومة رئيس الوزراء السوداني تتمتع بعلاقات دبلوماسية أقوى، وأكد ذلك اجتماع السوداني الأخير مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في أنقرة، والتي تحدث خلالها مباشرة عن احتياجات العراق المائية، وإعلان إردوغان أن أنقرة ستزيد كميات المياه التي يتم صرفها إلى العراق لمدة شهر".
ويشير التقرير إلى "الرغبة المتزايدة في بغداد لتحقيق التوازن وتوسيع علاقاتها مع أنقرة، إلى جانب موقف أكثر ترحيبا من الجيران العرب، والدعم الغربي للسيادة العراقية والمشاركة الإقليمية" ما عمل على "تعزيز مكانة العراق كجسر إقليمي للتعاون".
ومن بين المقترحات، تمكين وزارة الموارد المائية لتمثيل العراق مباشرة مع جيرانه.
ويشير النداوي إلى أن العراق "شريك تجاري مهم لتركيا وإيران. اقتصادات المنطقة ضعيفة وتحتاج العراق كسوق وممر للبضائع. وهناك علاقات كبيرة في مجال الطاقة مع تركيا وإيران".
ويقول إن الفرصة متاحة إن وجدت الإرادة السياسية لفتح أبواب الحوار وتقديم مقترحات جديدة، ليس فقط بزيادة الإطلاقات المائية، ولكن يمكن أيضا تطوير طرق الري".
واقترح عزام علوش، خبير المياه العراقي البارز ومؤسس "طبيعة العراق"، في التقرير التوصل لحل أكثر استدامة لمشكلة تبخر المياه من خلال إبرام اتفاقية مع تركيا تحتفظ بموجبها بحصص عادلة من المياه لصالح العراق، لأن معدلات التبخر في الخزانات التركية أقل بكثير مقارنة ببحيرة الثرثار العراقية، جراء ارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي إلى تبخر نحو 7-8 مليارات متر مكعب من المياه سنويا.
ويوضح النداوي أن الخزن يضمن إطلاقات معينة أثناء فترات العوز المائي، وبالتالي يكون هناك تعاون بين البلدين في استخدام المياه.
ويقول النداوي: "ينبغي النظر للمياه على أنها مجال للتعاون وليس للصراع".
ونظرا لأن العراق شريك تجاري مهم مع تركيا "يمكن استخدام التجارة أداة للمساومة مع كلا البلدين، بالنظر إلى مدى اعتمادهما على الأسواق العراقية"، وفق التقرير.
ويقترح "استئناف صادرات النفط الشمالية، وبيع النفط بسعر مخفض، وتصدير الغاز" إلى تركيا.
لكن استخدام بغداد الفعال للتجارة في المفاوضات سيتطلب تحسين الأمن على الحدود للسيطرة على البضائع، وجمع الجمارك في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة إقليم كردستان أو أماكن سيطرة المدعومة من إيران.
ويمكن أن تكون معالجة مخاوف إيران وتركيا بشأن النشاط العسكري عبر الحدود أداة أخرى للتفاوض.
ويقول علوش إنه خلال العقود الثلاثة الماضية تم بناء العديد من السدود، في حين أن الزراعة في العراق ظلت منذ آلاف السنين تعتمد على الفيضانات الدورية التي تزيل الأملاح التي تتكون بسبب التبخر، وبالتالي تتجدد خصوبة الأراضي الزراعية بسب الفيضانات.
ويشير إلى آخر فيضان كبير في العراق كان في عام 1986، ورغم بناء السدود خلال العقود الماضية، لم يجدد العراق طرق الري، ما زاد من ملوحة التربة، ويشير إلى أنه مسطح الثرثار الذي يغطي حوالي 2400 كيلومتر يخسر 8 ملايين متر مكعب سنويا بسب ذلك.
ويقترح علوش" إدارة مشتركة للمياه بين تركيا والعراق إلى أن "تتحسن إدارة عملية الري" مشيرا في ذلك إلى إمكانية خزن المياه في تركيا، ويقترح بيع النفط والغاز لها بأسعار مخفضة مقابل ذلك.
واستبعد التوصل إلى اتفاق مع إيران بسبب احتياجاتها إلى المياه، بينما تعاني أيضا من سوء إدارة لملف المياه.