سكاي برس /
عدلي صادق
حتى الآن، ليس من المناسب، الخوض في تفصيل فحوى سياسات إسرائيل التي رافقت المعركة الراهنة، أو الخوض في التفصيلات العسكرية للمعركة التي تدور، ومعظمها مسكوت عنه حتى الآن. فالغالبية العظمى من الحديث يدور عن القصف وعلى رشقات الصواريخ الفلسطينية. إن عناصر تمحيص هذه السياسات وما خلفها، ينبغي حفظها وترتيبها ووضعها جانبا، ريثما يحين موعد الخوض فيها، عندما تخرج غزة من هذه الحرب، بما انعقد لها من امتداح باهظ الثمن.
لكن الفلسطيني، لا يجد حرجا في الإفصاح عن مسألة واحدة، ذات شقّين، وهي لا تحتمل التأجيل، وهو في الإشارة إليها، لن يجلب بشأنها شيئا من عنده. فطوال الليالي، كنت الإنسان الذي يراقب حركة وعي النخبة عند العدو في ما وراء المقالات الإسرائيلية المنشورة. واستدلالا مما يرى، يرى ما يتوجب على كل من حماس والحركة الوطنية الفلسطينية في الضفة أن تفعل شيئا استراتيجيا، له ألف ما يبرره، بعد الخروج من المعركة بكثير من الامتداح، بأفواه وأقلام النُخب العربية، والكثير من المناصرين للقضية الفلسطينية في العالم، ثم دخول التحدي على المستوى الاستراتيجي.
ما يتعيّن على الحركة الوطنية أن تفعله، قبل عرض فحوى التدبير الإسرائيلي لكي يستمر الانقسام الفلسطيني، هو إسقاط عباس ومجموعته أو حلقته الضيقة فورا وبآلية ديمقراطية. أما الشيء الذي يتعيّن على حماس أن تعرفه وتتحاشاه لكي يتحول الانتصار إلى ورقة سياسية استراتيجية، هو أن إسهامها في استمرار الانقسام الفلسطيني، يلبي لدى إسرائيل حاجة استراتيجية، وهذا أمر لا تجهله، لكنها لم تؤد واجبها بموقف آخر، يُنحي جانيا ويتجاوز إصرار جماعة “الإخوان” على الاحتفاظ بحكم غزة، باعتبارها الجغرافيا السياسية الوحيدة، المتحققة للجماعة.
لا حاجة للذهاب إلى ما وراء المقالات الإسرائيلية. فها هو تسيفي برئيل، ذو التحليلات التي تنحو إلى الكتابة في الشأن الاستراتيجي والمنشورة في صحيفة “هآرتس” يقول بالحرف “إن الركيزة الأساسية لسياسة إسرائيل في المناطق التي بُني عليها الفصل بين الضفة والقدس وبين قطاع غزة الذي يشكل الدرع الواقي ضد الضغط الدولي لقيام دولة فلسطينية مستقلة؛ هو استمرار الانقسام بين فتح وحماس. وطالما بقي هذا الفصل هو سياسة إسرائيل، فسيواصل الجانب الإسرائيلي إملاء المرونة التي تميز علاقته غير المباشرة مع حماس، لاسيما وهي لا تمانع في استمرار إدارتها لقطاع غزة من خلال المساعدات (وخصوصا القطرية التي تصل إلى غزة بتسهيلات إسرائيلية)”.
ويعلل الكاتب، أو يكشف بصراحة، سرّ موافقة إسرائيل في كل مرة على محض تفاهم على وقف إطلاق النار، وفي ذهنها موضوعيا، أن الطرف الفلسطيني سيواصل مراكمة عناصر القوة، لكي يعود إلى جولة أخرى. فلماذا لا يريدون التوصل إلى حل بملـمح سياسي أو تسووي، يسلم بشيء من الحقوق الفلسطينية، ويصرون على استمرار الوضع، مع التحضير لجولة من التدمير الممنهج لغزة، لكَيّْ الوعي الباطني لمواطنيها، أملا في دفع حماس إلى الإقلاع نهائيا عن فكرة القذف بالصواريخ؟
السبب، باختصار، لأن إسرائيل تعتبر استمرار الانقسام، أكثر فائدة عليها من التوصل إلى وفاق فلسطيني، يرسم ملامح الدولة الفلسطينية، من خلال نظام سياسي مكتمل المؤسسات وموحد، ومحايد بين الأحزاب والحركات، التي تتيح للشعب الفلسطيني تفويض من يدير هذا النظام أو الكيان، لأجل زمني محدد، وبالوسائل الديمقراطية، في ظل القانون الذي تنحني له كل الهامات.
بالنسبة إلى عباس كان إلغاء الانتخابات ناشئا عن تلك الاستراتيجية الإسرائيلية، وإن كان السبب الظاهر وغير الرئيسي خوفه من عدم التحصل على كتلة من المقاعد تضمن استمرار تفرده. فسببه الجوهري هو استشعار الخطر على نفسه وعلى حلقته الضيقة. ويبدو أن إسرائيل، لم تولِ أهمية لحقيقة أن حماس في تفردها بحكم غزة، ليست معنية بالشرعية الدستورية في الحكم، وتجد ضالتها في ما يسميه فقهاء القانون الدستوري “الشرعية الثورية”. وشتان بين الشرعيتين، إذ أن الأولى ظاهرة قانونية، بينما الثانية المخصصة لتسويغ شرعيات حركات التحرر، محض ظاهرة تاريخية!
كان الفلسطينيون في أواخر زمن عرفات، وبعد اندلاع انتفاضة أكتوبر العام 2000 قد وجدوا أنفسهم أمام الشرعيتين، القانونية والدستورية، على أرض واحدة، وقد أصبح ذلك هو سبب المشكلة التي تداعت فأوصلت الأوضاع الفلسطينية إلى الاحتراب ثم الانقسام. ولا ننسى أن الرئيس عرفات، الذي كان المعني الأول بتكريس الشرعية الدستورية، هو الذي انتقل مع حماس إلى خيار شرعية حركة التحرر، بعد أن فشلت مفاوضات كامب ديفيد في صيف العام 2000. وفي مرحلة الانتفاضة تلك، كبرت حماس، تجنيدا وتسليحا في بطن السلطة والمجتمع، وزادها القتل الإسرائيلي رواجا، إذ أدت الخسارة الجسيمة في الأرواح إلى تنامي الإحساس الشعبي بضرورة الثأر. عندئذٍ بدأت سياقات المواجهة التي انتهت بكارثة جعلت محمود عباس يلعب براحته دور المنقذ باعتباره صاحب خطا يموء كالقطط، ويكره السلاح ويتسم بركاكة مفتضحة في اللغة السياسية.
يقول برئيل “إن أي تفاهم على وقف إطلاق النار، لن يكون محفورا في الصخر. إنه سوف يستند إلى قناعة إسرائيل، بالامتناع عن أي تقويض لحماس، كجسم يواصل إدارة الحياة في القطاع”!
معنى ذلك، أن إسرائيل تشتغل على الفصل بين الشيء وشقيق الشيء على أربعة مسارات، اثنان لكل من فتح وحماس. فبالنسبة إلى الأخيرة، هي تريد أن تفصل بين حماس الحكم وحماس المقاومة، فتُبقي على الأولى لتأدية وظيفتها وتسعى إلى تدمير الثانية. والفصل الثاني تحاول الفصل بين حماس وحقها في أن تنتصر للقدس، وهذا بلغة إسرائيل عملية تسمى الفصل بين حماس والأيديولوجيا على المستوى العملي، مثلما تنفصل أيديولوجيا إيران و”حزب الله” عن موقفيهما العملي أو العملياتي، بخصوص مساندة المقاومة الفلسطينية.
أما بالنسبة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية وعباس، فإن عملية الفصل الأولى، هي بين الضفة وغزة في كل السياقات، بينما الثانية بين عباس والعمق الوطني الفتحاوي والشارع الفلسطيني تاليا.