سكاي برس /
خيرالله خيرالله
من الواضح أنّ وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان واجه طريقا مسدودا في لبنان. يعبّر عن هذا الفشل تحذير لو دريان من “انتحار جماعي” للسياسيين في لبنان أو للبنان نفسه.
اقتصرت لقاءات لو دريان على رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه بري ورئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري ومجموعة من السياسيين اللبنانيين المعارضين وممثّلين للمجتمع الديني. نظريا، كان لتحرّك الوزير الفرنسي معنى لو كان لبنان بلدا طبيعيّا.
تكمن المشكلة الأساسيّة في أن لبنان بلد غير طبيعي. يعود ذلك لسببين على الأقلّ أولّهما أن ميشال عون رئيس للجمهورية فيما السبب الآخر أن “حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني يهيمن على لبنان المعزول عربيّا ودوليّا، اللهمّ إلّا إذا كان الاتكال على وزير خارجية هنغاريا بيتر سيارتو، اليميني المتطرّف، الذي يقول جبران باسيل إنّه “صديق” له!
لدى فرنسا ميل إلى مساعدة لبنان. لديها كلّ النيّات الحسنة تجاه لبنان. ولكن ما العمل عندما يكون رئيس الجمهورية منشغلا بالمستقبل السياسي لصهره وليس بمستقبل لبنان؟
ليس واردا أن تحقّق فرنسا أيّ تقدّم في لبنان في ظلّ معادلة في غاية البساطة هي معادلة “السلاح يحمي الفساد والفساد يغطّي السلاح”. لا مفرّ من كسر هذه المعادلة. لكن السؤال الذي يظلّ مطروحا هل فرنسا تستطيع ذلك، أي هل لديها ما يكفي من ثقل كي تتمكن من فرض مشروعها الإنقاذي؟
الأكيد أن المبادرة الفرنسيّة ستظلّ تدور على نفسها في حلقة مقفلة. ليس معروفا هل يمكن للعقوبات التي فرضت أو ستفرض على سياسيين لبنانيين كسر هذه الحلقة؟
جاء لو دريان إلى لبنان. كان محقّا في كلّ ما قاله. ما ليس معروفا هل كان محقّا في تجاهل دور “حزب الله” وسلاحه المذهبي غير الشرعي، وهو السلاح الذي جاء بميشال عون رئيسا للجمهوريّة. هنا لبّ المشكلة التي تواجه فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون في لبنان حيث هناك رئيس للجمهورية يتجاهل أبعاد تفجير مرفأ بيروت قبل تسعة أشهر وقبل ذلك انهيار النظام المصرفي اللبناني. لا وجود لرئيس للجمهوريّة على علم، ولو في الحدّ الأدنى، بالنتائج المترتبة على تفجير مرفأ العاصمة وعلى انهيار النظام المصرفي. لا وجود لرئيس للجمهورية ولصهر له، يمارس صلاحيات الرئيس، على استعداد لاستيعاب أن إنقاذ مستقبل جبران باسيل شيء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان شيء آخر.
يتذرّع الثنائي عون – باسيل بـ”حقوق المسيحيين” من أجل وضع العراقيل في طريق تشكيل حكومة “اختصاصيين” برئاسة سعد الحريري الذي لا يزال السياسي اللبناني شبه الوحيد القادر على التحرّك عربيّا ودوليّا وإنْ ضمن حدود واعتبارات معيّنة.
لعلّ أخطر ما في الأمر أنّ ثمة نمطا جديدا في التفكير لدى قسم من اللبنانيين. مثل هذا النمط في التفكير المضحك المبكي لا يساعد في تشكيل حكومة ولا في إخراج لبنان من عزلته. مثل هذا النمط في التفكير يفسّر الفشل الفرنسي في لبنان. يقوم هذا النمط على فكرة أن “جبهة المقاومة والممانعة” بقيادة إيران انتصرت في المنطقة وأن العرب مندفعون في اتجاه إعادة تأهيل بشّار الأسد وردّ الاعتبار إليه.
من حسن الحظّ أن البيان الأخير الصادر عن البيت الأبيض، والذي وصف النظام السوري بما يجب أن يوصف به أي أنّه نظام متوحّش في تعاطيه مع شعبه ستبقى العقوبات الأميركية مفروضة عليه، جاء ليضع النقاط على الحروف. من جملة ما وضعه من نقاط على الحروف أنّه حتّى لو حصل انفراج بين إيران والإدارة الأميركية في مجال العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ورفع جزء من العقوبات على “الجمهوريّة الإسلاميّة”، يبقى الملف السوري في واشنطن مسألة مختلفة. هذا ما يُفترض في المراهنين على نظام بشّار الأسد، وعلى رأسهم “حزب الله” وميشال عون وجبران باسيل، استيعابه اليوم قبل غد.
جاء وزير الخارجية الفرنسي إلى بيروت للمرّة الخامسة خلال فترة قصيرة ليواجه وضعا في غاية التعقيد. جاء كما كان يقول الجنرال شارل ديغول في الماضي عن أنّه “ذاهب إلى الشرق المعقّد بأفكار بسيطة”.
من الصعب على رئيس الجمهورية وصهره فهم الأفكار البسيطة التي تقوم على تشكيل حكومة اختصاصيين تتولّى التفاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل وضع برنامج إنقاذي للبنان. أخذ ميشال عون النقاش مع لو دريان إلى مكان آخر. يريد إصلاحا وحربا على الفساد ولا يريد في الوقت ذاته التطرّق إلى إهدار خمسين مليار دولار على الكهرباء التي يتولّى مسؤوليتها صهره منذ اثني عشر عاما!
كلام كبير وفارغ من أيّ مضمون يصدر عن رئيس الجمهوريّة الذي يوفّر غطاء مسيحيا لسلاح “حزب الله”. لا هدف من هذا الكلام سوى إنقاذ المستقبل السياسي لجبران باسيل وكأنّ لبنان تحوّل إلى إحدى الجمهوريات التي تتحكّم بها عائلة واحدة وأنّ من الطبيعي أن يكون جبران باسيل رئيس الجمهورية المقبل. خلف بشّار الأسد حافظ الأسد، لماذا لا يخلف جبران باسيل ميشال عون، الذي ليس لديه أبناء ذكور؟
خلاصة الأمر أن لبنان يعيش في ظلّ وضع غير طبيعي. من هذا المنطلق لا يستطيع وزير الخارجية الفرنسي تطبيق المنطق في لبنان. ما يسود في البلد هو منطق اللامنطق. أيّ منطق يقول إن ميشال عون، حليف صدّام حسين في 1988 و1989 و1990، يشغل موقع رئيس الجمهوريّة في لبنان منذ 2016؟ وأيّ منطق يقول إنّ “حزب الله” يتحكّم بلبنان ويصرّ على أن يكون مجرّد ورقة إيرانيّة؟
أخيرا أين المنطق في الرهان على نظام بشّار الأسد الذي ليس موجودا في دمشق إلّا بفضل الميليشيات الإيرانية والدعم الروسي؟
عاد لو دريان إلى باريس مثلما جاء منها. عاد في ظلّ موازين القوى للقوى القائمة في المنطقة. عاد في وقت ستستمر فيه حال الانهيار في لبنان الذي يحتاج إلى تغيير جذري على الصعيد الإقليمي كي تبدأ عمليّة إعادة صياغته على أسس جديدة لا علاقة لها بتلك الأسس التي قام عليها منذ الاستقلال في العام 1943. جاءت زيارة وزير الخارجيّة الفرنسي لتؤكد أن لغة المنطق لا تنطبق على لبنان لا أكثر ولا أقلّ..