سكاي برس/ بغداد
أنهى انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزاف عون الخميس رئيسا للبلاد نحو عامين من الفراغ السياسي، وأنعش آمال اللبنانيين في تدشين مرحلة جديدة تطوي صفحة الأزمات المتلاحقة التي عصفت ببلدهم.
نجاح هذا الاستحقاق الوطني الذي تعثر 12 مرة، جاء نتيجة لمتغيرات جيوسياسية إقليمية قلبت موازين القوى في المنطقة، ولكن أيضا تتويجا لمساعي دول عربية وغربية عملت منذ أشهر على بلوغ توافق وطني ينهي الوضع الذي كان قائما.
شكل انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزاف عون الخميس رئيسا جديد للبلاد أول اختبار لتوازن القوى في لبنان منذ الضربات الشديدة التي تعرض لها حزب الله المدعوم من إيران في الحرب مع إسرائيل. خاصة وأن الجماعة الشيعية كانت هي القوة المحركة التي دفعت بالرئيس السابق ميشال عون، حليفها آنذاك، إلى سدة الرئاسة في عام 2016.
جرت هذه الانتخابات على خلفية تغيير تاريخي في منطقة الشرق الأوسط حيث ظلت إيران وسوريا تمارسان نفوذا على لبنان لعقود، سواء بشكل مباشر أو من خلال حلفائهما مثل حزب الله. إضافة إلى ذلك، لعبت دول أبرزها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والسعودية دورا مهما وحاسما في استثمار السياق الراهن وتكثيف ضغوطها لإنهاء حالة الشغور التي دامت نحو سنتين اثنتين.
ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في تشرين الأول/أكتوبر 2022، فشل البرلمان اللبناني خلال 12 جلسة في انتخاب رئيس جديد وسط تمسك حزب الله، أبرز قوة سياسية وعسكرية آنذاك، بمحاولة فرض مرشحه سليمان فرنجية.
انسحاب ممثل حزب الله من السباق
لكن حزب الله تلقى ضربة قاسية في مواجهته مع إسرائيل التي استمرت سنة تقريبا على خلفية الحرب في قطاع غزة بين حركة حماس والدولة العبرية. ودمرت إسرائيل جزءا كبيرا من ترسانة الحزب وقتلت عددا من قياداته على رأسهم أمينه العام حسن نصرالله، ما أجبر الحزب على القبول باتفاق وقف لإطلاق النار مع إسرائيل ينص على انسحابه من المنطقة الحدودية وفي مرحلة لاحقة على نزع سلاحه، وفق ما يقول مسؤولون لبنانيون.
إثر كل هذه التطورات، تبنى ممثل حزب الله الذي كان مقربا من نظام بشار الأسد موقفا مغايرا، وأعلن الأربعاء، انسحابه لصالح قائد الجيش. انتخاب جوزاف عون بعد الأزمات المتتالية التي مر بها لبنان منذ العام 2019، يؤشر نسبيا إلى بداية مرحلة من الاستقرار. ويرى مراقبون ومحللون أن الدور المطلوب من الجيش في المرحلة المقبلة لتنفيذ وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله شكل عنصرا حاسما في ترجيح كفة جوزاف عون.
جوزاف عون: "جودة الأداء واستقامة السلوك"
يَعتبِر العميد الركن السابق في الجيش اللبناني حسن جوني أن هناك متغيرات أدت إلى إنضاج الاستحقاق الرئاسي بشكل عام قبل حتى الحديث عن الأسماء الممكن توليها المنصب، وهي مرتبطة بالحرب بين إسرائيل وحزب الله، وإلى حد ما نتائجها، إذ يرى أن "الاتفاق الذي وقعه لبنان وإسرائيل بنهاية الحرب مهد وهيأ، بل ربما ألزم لبنان بإتمام العملية الانتخابية".
من جهة أخرى، "فقد تصاعدت في الآونة الأخيرة المطالب المستمرة والمتجددة في الداخل اللبناني، وخاصة الجانب المسيحي الماروني الذي ينتخب منه رئيس الجمهورية، ويعتبر شريكا رئيسيا في السلطة السياسية في لبنان، إذ لطالما لعب البطريرك الراعي دورا مهما في تحقيق التوازن في لبنان، هذا الأمر يتأكد في كل أزمة".
ترحيب إقليمي ودولي بانتخاب جوزاف عون رئيسا للبنان
لماذا جوزاف عون؟ يجيب العميد الركن موضحا "هناك عاملان اثنان في شخصية جوزاف عون أديا إلى بلوغه الرئاسة. الأول يرتبط بعلاقته الجيدة مع المجتمع الدولي، والثقة التي استطاع بناءها حين كان على رأس المؤسسة العسكرية، خاصة مع كثير من الدول العربية، والنابعة من جودة أدائه واستقامة سلوكه، ولعل ذلك قد بدا واضحا من خلال قيادته الجيش في ظروف حرجة جدا مر منها لبنان، بدءا من حرصه على صون الحقوق وحرية التعبير، خاصة خلال ما سمي بثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2019 حيث حرص على أن يكون الجيش حاميا للديمقراطية".
"استطاع أن يحمي مؤسسات الدولة ويمنع أعمال التخريب"
إلى جانب ذلك، يقول حسن جوني إن عون "استطاع إلى حد بعيد أن يحمي مؤسسات الدولة ويمنع أعمال التخريب. كل هذه العوامل، أكسبته قدرا واحتراما لدى القوى العظمى، كالولايات المتحدة التي لها علاقة وطيدة مع الجيش اللبناني من خلال دعمها له بالأسلحة والعتاد والأموال والتدريب".
في السياق ذاته، يضيف المتحدث أن شخصية عون القيادية مكنته من إدارة المؤسسة العسكرية بكثير من الاقتدار والحرص على صون قيم الشفافية والنزاهة والاستقامة وعدم الخضوع لأي جهة سياسية في لبنان، فقد" حمى المؤسسة العسكرية بنسبة كبيرة جدا من التدخل السياسي، وكرس معيار الكفاءة في التعيينات كما كافح الفساد والمفسدين".
انحسار دور "محور إيران"
لطالما شكل لبنان ساحة تنافس بين القوى الإقليمية مثل إيران وسوريا. فمن خلال دعمها لحزب الله، سعت طهران إلى التأثير على السياسة اللبنانية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. لكن، ومع التطورات الأخيرة في المنطقة، متمثلة في حرب غزة ولبنان وتداعياتها، بات دور الجمهورية الإسلامية أضعف بكثير مما كان عليه، خاصة إثر الضربات القوية التي لحقت بحليفها حزب الله، ما انعكس على تأثيره السياسي.
ومع بدء مرحلة التصعيد الإسرائيلي الكبير بلبنان، والتي تجسدت بشكل أساسي في توسيع دائرة القصف على مختلف المناطق والقرى، وفي استهداف قادة حزب الله وصولا إلى اغتيال أمينه العام حينها حسن نصرالله، طفا إلى السطح من جديد النقاش حول ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، لمعالجة تداعيات الحرب داخليا وخارجيا.
لذلك، وبعد مقتل نصرالله، جدد نجيب ميقاتي الذي كان يتولى إذ ذاك منصب رئيس حكومة تصريف الأعمال دعوته إلى انتخاب رئيس للبلاد بشكل عاجل، مؤكدا الحاجة الملحة لإتمام الاستحقاق الرئاسي، كما شدد على ضرورة تطبيق القرار الدولي 1701. سقوط نظام بشار الأسد عامل مهد هو الآخر الطريق لانتخاب رئيس للبنان، إذ سعى الرئيس المخلوع على مدى سنوات إلى التدخل في المشهد السياسي حماية لمصالحه ودعما لحلفائه.
دعم سعودي لضمان الاستقرار السياسي
في المقابل، عملت بعض دول الخليج وعلى رأسها السعودية، على لعب دور مهم فيما يتعلق بتوازن القوى بين مختلف الفرقاء والطوائف. في هذا السياق، دعمت الرياض جوزاف عون باعتباره مرشحا قادرا على الحفاظ على الاستقرار السياسي.
وفق مراقبين، فحرص هذه الدول على استقرار لبنان ينبثق من وعيها بأن أي انهيار قد ينعكس سلبا على الأمن الإقليمي. من جانبها، قادت دول غربية في مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة مسارا لم يكن سهلا من المفاوضات والمباحثات للدفع باتجاه ملء الفراغ السياسي.
تاريخيا، لعبت فرنسا دورا رئيسيا في لبنان. لذلك كانت في طليعة الأطراف التي تدعو إلى انتخاب رئيس يشرف على استقرار البلاد. هذا الدعم كان حاسما أيضا في تشكيل تحالفات سياسية وفي إقناع القوى المحلية بالموافقة على انتخاب عون. ومنذ صيف عام 2023 كثفت باريس جهودها لحلحة الجمود، من خلال بعث (وزير الدفاع والخارجية السابق) جان-إيف لودريان وتكليفه بالمساعدة في إيجاد حل "توافقي وفعال" للأزمة اللبنانية التي تفاقمت خصوصا بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020.
الولايات المتحدة، التي تحظى هي الأخرى بتأثير كبير في لبنان خصوصا فيما يتعلق بالقضايا الأمنية والاقتصادية، أكدت دعمها استقرار لبنان عبر التعجيل بانتخاب رئيس له، بشرط التزام الحكومة اللبنانية بتنفيذ الإصلاحات الضرورية ومكافحة الفساد، وهو ما تعهد به جوزاف عون. علاوة على ذلك، كان التوافق على ضرورة تعزيز دور الجيش اللبناني في حفظ الأمن والمساهمة في تعزيز الاستقرار عاملا حاسما في الخروج من مرحلة الجمود السياسي.
عقب حالة الضعف التي أصابت حزب الله وداعميه في المنطقة، كثفت واشنطن عبر مبعوثها الخاص إلى بيروت آموس هوكشتاين مساعيها لإقناع بعض أطياف المقاومة بالعودة إلى كنف الدولة وتقديم مصالح لبنان على أي اعتبارات أخرى قد تكون مرتبطة بالتبعية لجهات خارجية.
ويرى المحلل السياسي اللبناني ورئيس مجلة "كل العرب" علي المرعبي وراء انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان متغيرات داخلية وإقليمية ودولية، ويمضي مفسرا أن من بينها "الضربات القوية التي تلقاها حزب الله من إسرائيل خلال الفترة الأخيرة، والتي تمثلت باغتيال قياداته الرئيسية السياسية والعسكرية، وأيضا تدمير معظم مخزونه العسكري والتسليحي الاستراتيجي".
عدا عن ذلك، يسوق المحلل حدث إسقاط النظام السوري، "الذي عرف بتعطيله انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان" إضافة إلى "تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة"، و"الدور الدولي والعربي الداعم للعملية الانتخابية".
على صعيد آخر، يشير المرعبي إلى طبيعة شخصية العماد جوزاف عون "التي تتميز بالحفاظ على مسافة من جميع القوى السياسية في لبنان، وعدم الانحياز لأي طرف، ما منحه شبه إجماع وطني" فضلا عن أنه أثبت خلال فترة سبع سنوات أو أكثر من تسلمه قيادة الجيش اللبناني، قدرته على تسيير شؤون هذه المؤسسة العسكرية الهامة التي بقيت تقوم بدورها ولو بشكل محدود، بسبب تراجع القدرات التسليحية والمالية نتيجة الأزمات في لبنان، كل هذه العوامل رجحت في النهاية كفته كي ينتخب رئيسا للبلاد".
تحديات الرئيس المنتخب تنتظر جوزاف عون
تحديات كبيرة أبرزها التحدي الأمني، إذ سيكون مطالبا بإرساء الاستقرار في الجنوب، وإعادة النازحين الذين غادروا مدنهم وقراهم نتيجة الحرب الأخيرة. كذلك، سيكون من بين أولويات الرئيس المنتخب إعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة التي دمرت أجزاء في جنوب وشرق البلاد وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي يشمل ايضا الالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 الصادر في العام 2006 والذي من بنوده ابتعاد حزب الله عن الحدود، ونزع سلاح كل المجموعات المسلحة في لبنان غير القوى الشرعية.
لبنان: أي تحديات تنتظر الرئيس الجديد؟
وإلى جانب استكمال اتفاق الطائف والإصلاحات السياسية التي عُطلت لعقود، سيتوجب على عون إعادة بناء الاقتصاد اللبناني، بعد سنوات من أزمة اقتصادية خانقة، وتحويله من اقتصاد الريع إلى اقتصاد منتج. قبل كل ذلك، ينتظر عون تحدي تشكيل حكومة كفاءات وطنية تتجاوز نظام المحاصصة الطائفية.
وفق محللين سياسيين، فإن انتخاب عون ليس مجرد إجراء سياسي عادي، بل هو نتيجة لتفاعل معقد بين العوامل الداخلية والخارجية، الاقتصادية والسياسية. فبينما يمثل الرئيس المنتخب وحدة البلاد ورمزها، سيكون مطالبا بالعمل على إعادة بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وتحقيق الاستقرار عقب فترة غير مسبوقة من الأزمات المتلاحقة.