Skip to main content

"عشائر للبيع".. من حراس البخت والنخوة إلى تجار الدم والولاءات والمصالح

المقالات الأحد 16 شباط 2025 الساعة 18:29 مساءً (عدد المشاهدات 313)

سكاي برس/ بغداد 

كتب - مراد الغضبان

نحن أبناء عشائر، نفتخر بجذورنا العريقة وأعرافنا التي قامت على النخوة والكرامة والعدالة، لكن ما يجري اليوم تحت راية العشيرة لم يعد امتدادًا لتلك القيم، بل تحوّل إلى سلاحٍ لتبرير الفوضى، وحماية المجرمين، وإضعاف القانون. في غياب الضوابط، صار كل من جمع حوله عددًا من الأتباع يُلقَّب بـ”الشيخ”، وتحول الفصل العشائري إلى تجارةٍ علنية، تُباع فيها الحقوق وتشترى الذمم، حتى أصبح المعتدي مطمئنًا، واثقًا من أن عشيرته ستدفع عنه، خاصة إن كان ينتمي لعشيرةٍ كبيرة، بينما يخرج الضحية مكسورًا، وقد فُرض عليه القبول بالأمر الواقع.

العشائر لم تعد درعًا لحماية الضعفاء، بل أصبحت حصنًا يحتمي به القتلة والمجرمون، حتى في قضايا الدم والفساد. تُبرَّأ القتلة وتُغلق الملفات، ويُجبر أهل الضحية على التنازل مقابل حفنة من المال، وأحيانًا تحت تهديد العشيرة نفسها، ليخرج القاتل بلا حساب، يكرر جرائمه دون خوف، ويترسخ في المجتمع مفهوم الإفلات من العقاب.

أما مواقع التواصل الاجتماعي، فقد زادت الطين بلّة، حيث ظهر جيلٌ جديد من “الشيوخ” الذين لا يملكون من المشيخة سوى الاسم والتصوير والاستعراض الإعلامي. تحولوا إلى تجار أزمات، يعقدون الصفقات ويتاجرون بالنزاعات، بينما يختفي شيوخ العشائر الأصيلة الذين كانوا أهل حكمةٍ ونخوة. ومع غيابهم، ظهرت عصاباتٌ بغطاء عشائري، تمارس الاحتيال بفبركة الحوادث، أو الإيقاع بالضحايا بذرائع مشبوهة.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى درجة أصبحت فيها العشائر سلاحًا يُستخدم ضد رجال الأمن أنفسهم. أحد أقاربي، وهو ضابط في وزارة الداخلية، أخبرني أن التهديدات والگوامة العشائرية أصبحت جزءًا من حياته اليومية، إذ صار المنتسب الأمني عرضة للابتزاز والتهديد إن أدى واجبه وفق القانون، لأن الطرف الآخر سيحتمي بعشيرته، ويستخدمها درعًا يحول دون محاسبته. هذه الظاهرة تسببت في ترهل المؤسسة الأمنية، فكيف يمكن لضابطٍ أن يطبق القانون وهو يعلم أن العواقب قد تصل إلى تهديد حياته أو استهداف عائلته؟

بل حتى أبسط الخلافات اليومية تحوّلت إلى مصدر ابتزاز، فاليوم، مجرد مشاجرة أطفال بين الجيران قد تتحول إلى قضية فصل عشائري ومطالبة مالية، بعد أن كانت تُحل بجلسة ودّية بين العوائل. ما الذي تغيّر؟ هل هو انحدار في أخلاق المجتمع، أم غياب الرادع القانوني؟ التجربة أثبتت أن القانون وحده قادر على الحدّ من هذه الظواهر، فمثلًا، عندما صدر قانون يجرّم “الدگة العشائرية”، وهي أحد أخطر الممارسات التي انتشرت في العراق، تراجعت هذه الظاهرة بشكلٍ ملحوظ بعد أن كانت متفشية في كل مكان. لكن، ماذا عن الفصول العشائرية الجائرة، والابتزاز العشائري، واستغلال العشيرة كسلاح؟ أليس من الواجب فرض قوانين صارمة تضع حدًا لهذا العبث؟

أما على صعيد السياسة، فقد أصبحت المشيخة تجارة مربحة، وأصبح بعض الشيوخ مجرد سماسرة انتخابات، يبيعون الولاءات لمن يدفع أكثر. مع قرب الانتخابات، يتحوّلون إلى وسطاء بين السياسيين وأصوات العشائر، يطرقون أبواب كل الأحزاب، سواء كانت إسلامية أم علمانية، يتلقون الأموال والهبات، ثم يعودون إلى عشائرهم ليقرروا لمن ستذهب الأصوات. هكذا، تحوّل الشيخ الذي كان يومًا رمزًا للعزة والكرامة إلى مجرد تاجرٍ في سوق السياسة، يبيع موقفه كما يبيع الفصل والنزاعات.

لا شك أن الأمثلة كثيرة، والممارسات التي شوهت صورة العشيرة الحقيقية لا تعدّ ولا تحصى. لكن رغم كل هذا، لا يزال هناك رجال شرفاء، شيوخ تمسّكوا بإرث أجدادهم، ولم ينزلقوا في مستنقع المصالح والمال، ولم يجعلوا العشيرة بضاعة تُباع وتُشترى. هؤلاء هم الأمل، وهم الصوت الذي يجب أن يُسمع قبل فوات الأوان.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد انحراف في بعض الممارسات العشائرية، بل هو انهيارٌ لمنظومة اجتماعية كاملة، كانت العشيرة فيها سندًا للمظلوم، لا غطاءً للظالم. على الحكومة، وشيوخ العشائر الحقيقيين، والوجهاء، أن يضعوا قوانين رادعة تنظم هذه الأعراف، وتعيد للعشيرة دورها الأصيل في حماية الحق، لا شرعنة الباطل. يجب وضع آليات واضحة تمنع الابتزاز العشائري، وتعيد الاعتبار لمفهوم المشيخة الحقيقية، حيث يكون الشيخ رجل حكمةٍ وإصلاح، لا تاجر دمٍ وسمسار ولاءات.

إن لم يتحرك العقلاء اليوم، فغدًا لن يكون هناك عشائر تحفظ الحق، بل عشائر تُشرّع الظلم، وتسوّق الباطل كأنه عرفٌ وقانون. فهل من صحوة قبل أن يُباع ما تبقى من كرامة العشيرة بأرخص الأثمان؟

حمل تطبيق skypressiq على جوالك
الأكثر قراءة