سكاي برس/ بغداد
"لا معنى للخلفيات القومية والطائفية في الفرقة، فهي تذوب معا لتشكل الهوية العراقية الجامعة"، تقول شمس سمير (20 عاماً) وهي مطربة وعازفة عود في "سومريات".
وفي خليط قومي وعرقي وطائفي منسجم ومتناغم، قوامه 60 امرأة تغني وتعزف في آن واحد، تظهر فرقة "سومريات" على أهم المسارح في العاصمة، بغداد، بعد عامين ونصف فقط من تأسيسها، كأن باعها من الزمن عقود. يقود الفرقة المايسترو العراقي علاء مجيد، الذي عاد لوطنه بعد سنوات من الاغتراب في أوروبا، مدفوعاً بحبّه للموسيقى العربية الذي لازمه حتى وهو بعيد عن بلده.
"سومريات" التي تأسست عام 2022، تجمع عازفات ومطربات عراقيات أصغرهن عمرها 12 عاماً، وجميعهن شابات من خريجات أو طالبات المعاهد الموسيقية في العراق، مثل مدرسة الموسيقى والباليه، وكلية الفنون الجميلة، ومعهد الدراسات الموسيقية. وبينهن حاملات شهادات عليا في الموسيقى، وخريّجات كليات الأدب واللغة، أو طالبات في مقاعد كلية طب الأسنان في بغداد. هؤلاء الشابات، هنّ كما يقول المايسترو ورئيس الفرقة علاء مجيد "حفيدات النساء العراقيات العظيمات وسليلات الملكة شبعاد"، حيث يمثلن اليوم وجه العراق "المتحرر والمتحضّر والمتمدّن، المنفتح على العالم". وبالتوازي مع مشهدية الصوت المتآلف والتجانس الشعوري الذي يظهر في الوجوه النابضة بالمرح والشغف، مع الموسيقى الاحترافية التي تصدح بها مختلف الآلات بعضها مهدد بالنسيان مثل آلة السنطور والجوزة، يأتي الزيّ ليكمّل الصورة عبر الرمزيات التي يحملها من حضارات بلاد الرافدين.
في الوقت ذاته، لا يخلو هذا المشهد الجمالي من التحديّات، فالفرقة لغاية الآن تعمل بجهود طوعية على مختلف المستويات.
لماذا كانت "سومريّات"؟
لم تكن فرقة "سومريات" الأولى التي يقودها المايسترو مجيد ويقدمها للجمهور العربي وحتى الغربي، فقد أسس فرقة "طيور دجلة" عام 2009 أثناء إقامته في السويد، وبعد انتقاله للعاصمة البريطانية، لندن، أسس فرقة "الغناء العربي" وأكاديمية الغناء العربي، ليمضي هناك خمس سنوات قبل العودة للعراق.
"انتمائي لوطني وإيماني بأولوية العمل فيه، أعادني"، يقول مجيد، مبيناً أنه يقود فرقتين اليوم، هما "سومريات" والفرقة الوطنية للتراث الموسيقي.
وكلتا الفرقتين قدمتا عروضاً حضرها آلاف العراقيين في بغداد ومدن أخرى. وكان مقرراً تقديم عروض لسومريات في 26 و27 سبتمبر الماضي، لكن تم إلغاؤها نتيجة التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله الذي أدى لمقتل أكثر من 1500 لبناني وعمليات نزوح ولجوء طالت أكثر من مليون شخص في داخل وإلى خارج لبنان.
حين عاد للعراق، وجد مجيد عشرات النساء المبدعات من خريجات المعاهد الموسيقية في العراق، ولكن دون فرصة تبرز حضورهن كمطربات وعازفات وتقدّمهن للجمهور، فقرر أن يشكّل فرقة للنساء فقط، اختار لها اسم "سومريات".
يشرح مجيد: "اخترت اسم سومريات، لأن أقدم آلة موسيقية عرفت في سومر قبل حوالي 6 آلاف عام، وأقدم مطربة في سومر كانت تغني وتعزف على القيثارة كان اسمها ننتو".
وخط الفرقة كما يؤكد المايسترو هو "الفن الملتزم"، لذلك فإنهن لا يقدمن العروض في أي مكان. ورسالة الفرقة ليست فنية فقط، بحسب مجيد، مضيفاً "هي رسالة تمدّن وتحضّر وانفتاح للعالم، وأن المرأة العراقية مبدعة".
تتدرب الفرقة ثلاث مرات أسبوعياً، وجميعهن بما فيهم المايسترو مجيد، يعملون بشكل طوعي، دون أي تمويل أو مردود مالي. يلفت مجيد إلى أن أغلب المصروفات بدءاً بالوصول إلى التدريب حتى أجهزة الصوت والإضاءة والتصوير وغيرها من متطلبات وتبعات العروض من "إنفاقنا الشخصي".
ويقول: "هذا تحدّ كبير لنا، فبعد عامين ونصف لا مردودات مادية أو دعم مالي من أي جهة، لكن وزارة الثقافة العراقية وعدتنا بأن تضم الفرقة لإحدى مؤسساتها، وهذا سيضمن تحسين أوضاع الفرقة المالية".
تراث عربي متنوع 70 في المئة
مما تقدمه الفرقة اليوم هو تراث موسيقي عراقي، وهو أيضاً خليط ثقافي يعكس مختلف مكوناته من جنوبه لشماله، وبأكثر من لغة. وهذا ليس فقط على مستوى الأغاني والألحان، فالعضوات أيضاً من مختلف المكونات.
لكن الطاغي نوعاً ما في العروض الموسيقية لـ"سومريات" هو التراث البغدادي، بحسب المايسترو مجيد. ويبيّن أن هدف الفرقة الأساسي تقديم كل ما هو جميل وقديم من مختلف الدول العربية، فبين عرض وآخر، تغني إحدى المطربات من تراث المغرب أو الجزائر أو مصر أو لبنان، وغير ذلك.
وهذا الأمر آخذ بالتوسع مع طول مسيرة الفرقة وتعدد عروضها. وقد غنت الفرقة بالفعل من كلاسيكيات الموسيقى العربية لفيروز وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، على سبيل المثال.
تغني شمس من بغداد باللغتين التركمانية والتركية إضافة للعربية.
. وتعتبر في حديثها أن الموسيقى لا توحد فحسب أبناء المجتمع الواحد فقط، فهي "لغة عالمية" تقطع حدود اللغة بألحانها وإيقاعاتها، لتصل إلى قلب المستمع مباشرة. "حتى الطفل الذي لم يبدأ التكلم بعد، تجدينه يرقص ويشعر بالفرح لمجرد سماع أنغام موسيقية"، تتابع شمس التي تخرجت من مدرسة الموسيقى والباليه، وتدرس حالياً طب الأسنان في الجامعة الأميركية.
عائلة واحدة"
بين فيديو وآخر يسجّل أغاني الفرقة خلال عروضها المتنوعة، نجد دائماً الابتسامة لا تفارق وجوه الشابات، إما يتبادلنها أو يُظهرنها تأثراً ببهجة اللحن أو بجمال الصوت الغنائي، وهو ما يظهر على وجه المايسترو نفسه.
وحين تغني جميعهن المقاطع الكورالية، يبدو الصوت واحداً وموحداً كأنه ترنيمة عراقية مألوفة.. كيف كان كل هذا التجانس والانسجام خلال عُمر الفرقة القصير جداً؟ يقول رئيس الفرقة علاء مجيد: "هناك علاقة ودية وطيبة بين جميع الشابات، لديهن حب لما يفعلنه وأيضاً هدف واحد، وأنا لا أقيّد الابتسامات وإظهار مشاعرهن بحرية فهذا جزء من العمل الإبداعي الجمالي".
والفرقة "تعني لي كثيراً، ولولا الود بينهن والعلاقة الإيجابية بيننا جميعاً، لضاعت الابتسامة"، يتابع مجيد.
هذا الأمر تؤكده عضوات الفرقة اللواتي تحدثن . تقول الطفلة ماري سلمان (13 عاماً) من بغداد، وهي عازفة بيانو، "أحب في الفرقة روح التعاون الكبيرة كأننا عائلة واحدة، وحبي للموسيقى جعلني أنتمي لسومريات".
وتعزف ماري مذ كان عُمرها أربعة أعوام، حيث لاحظ والداها أنها تحرّك أصابعها بطريقة العزف حين كانت تسمع الموسيقى والأغاني في البيت، فقررت أمها تسجيلها في معهد للموسيقى، وحالياً هي طالبة في مدرسة الموسيقى والباليه.
من جهتها، تقول شمس سمير "رغم تنوعنا وقدومنا من مناطق مختلفة داخل العراق، إلا أننا لا نميز بين بعضنا البعض، وحين نجلس معاً نشكّل عائلة واحدة هي العراق".
فاطمة عزيز (20 عاماً) وهي من بغداد أيضاً وعازفة كمان في الفرقة، تعبّر عن سعادتها في كونها جزءاً من "سومريات"، ذلك لدورها في "إبراز إمكانيات النساء العراقيات في مجال الموسيقى، بعد أن كان ذلك محدوداً جداً".
وتشير الطالبة في كلية الفنون الجميلة، إلى مشاركتها تحديداً في تقديم أغنية "قارئة الفنجان" للمطرب المصري الراحل عبد الحليم حافظ، خلال أحد العروض.
ثوب "سومري" ترتدي العضوات في فرقة "سومريات" زيّاً خاصاً بهن، أبدعته مصممة الأزياء الكردية روشن. يقول المايسترو مجيد إنه "يحمل رسم القيثارة السومرية، وكُتب اسم الفرقة عليه باللغة المسمارية أقدم لغات الكون". أما طوق الرأس، الذي ترتدينه عضوات الفرقة، فهو مطابق تماماً لتاج الملكة شبعاد "فهؤلاء حفيداتها العراقيات" بحسب مجيد.